عبّرت الفنانة السورية أصالة نصري عمّا يكنّه عدد غير قليل من اللاجئين السوريين المسفوحين في الشتات، عندما قالت منذ أيام إنها لم تعد تفكر بأمر العودة إلى سوريا..
ولكن!..
مشهد اللجوء السوري لم تُرخَ عليه الستارة رغم مرور نحو ثماني سنوات، وما زالت الحدود البرية والبحار تشهد تدفقاً عبثياً أو متسرعاً أو ضرورياً في كل الاتجاهات.. فمن المعبر نفسه ومن بين أوراق الليل الكالحة تلتقي أعين الهاربين بأعين العائدين، وكل منهم يحمل أسبابه وبعض متاعه على كاهله.
لجوء هشٌّ لم يمنح السوريين بعد ثماني حِججٍ أسباب القوة أو حتى طمأنينة الوقوف على أرض صلبة، لا في دول الخاصرة: لبنان والأردن والعراق، ولا في بلدان الأشقاء العرب، ولا في أوروبا وتركيا، الملاذين الأكثر أمناً، أو هكذا يُروَّج ويُؤمل.
وبدل أن تتقدم عملية التعايش بمرور الوقت، وتتعامل الشعوب المضيفة بحكمة وأناة مع القضية، بعد انقضاء مدة وصلاحية الحكم بردود الأفعال، يجد السوريون المنطق يسير بالمقلوب، فالعنصرية إلى تصاعد، وحملات التشويه والمتاجرة بهم إلى استشراء!.
التهديد بالترحيل أو عدم تجديد الإقامات المؤقتة يؤرق سوريّي أوروبا
التهديد بالترحيل أو عدم تجديد الإقامات المؤقتة يؤرق سوريّي أوروبا، وتباين الثقافات والعادات يضغط أكثر وأكثر مُظهراً عسر الاندماج، ومع صعود أحزاب اليمين وتفشي الإسلاموفوبيا في القارة العجوز، صار الأمر أشبه بكابوس يكتم الأنفاس ويؤرق الواقع والمستقبل، المستقبل الذي ما زال بعضهم يراه مشرقاً هناك، كأولئك الذين ضاقت بهم الحال في تركيا لا عن عجز أو تكاسل، ولكنهم استنفدوا فرصهم ولم يجدوا بعد سنوات من المكابدة ما يشي بتوفير حياة كريمة أو بعض كريمة لأبنائهم.. أولئك الذين يعملون أكثر من عشر ساعات في اليوم مقابل 10 دولارات!. بعضهم قرر حرف تفكيره الذي كان مسيطراً: سنتمكن من التكيف.
الهزة الأخيرة في تركيا عصفت بهؤلاء وقوّت عزيمتهم في ركوب البحار، إلا أن أمواجها لم تقف عند حدودهم، بل تجاوزتهم إلى عموم السوريين على اختلاف أعمالهم ومستويات دخلهم، فالدعاية الانتخابية التركية لأحزاب المعارضة في الانتخابات البلدية الأخيرة تحدثت عن عموم السوريين كأعداء وكارثة لابدّ من التخلص منها ومن تبعاتها، ومع أن السوريين اعتادوا هذا الخطاب والابتزاز الانتخابي في تجارب سابقة، فإن تقدم المعارضة نسبياً في هذه الانتخابات أصاب مكامن الطمأنينة بمقتل، فأعيدت الخطط البديلة إلى طاولة البحث بعدما طُويت في أدارج الاستقرار.
صحيح أن الانتخابات ونتائجها عديمة التأثير على السوريين فعلياً، إلا أنها تبيّن هشاشتنا ولين عظمنا في هذا المعترك، بما في ذلك المجنَّسون الذين ما زالوا غير قادرين على تجاوز انتمائهم أو دمجه بانتماء آخر، وإن زعموا.
الهشاشة لم تقتصر على المؤقت أو الراهن، بل طاولت المستقبلي والمأمول، فإلى أين المفر؟ وها هم سعوديون يطلقون وسماً (هاشتاغ) لقي تفاعلاً غير متوقع، يقول بطرد السوريين من المملكة، على أنه لا لاجئين هناك، بل مقيمون وزائرون كغيرهم من بلاد الله.
وعلى العكس فإن عشرات آلاف المقيمين السوريين في دول الخليج يرون في تركيا مستقبلهم المؤقت إن لم يكن الدائم، وينقلون أعمالهم وآمالهم إلى وطن جديد يعرفون أنه غير مستقر تماماً، ولكنهم يغامرون بمؤقت آخر على طريق العودة، العودة إلى أين ومتى؟ لا يعرفون ولا يفكرون كثيراً، فالخريطة أصبحت أعقد من أن تُفك مجاهيلها، ولم يعد سؤال الوطن هو المؤرق، بل سؤال البيت: من يحتل بيتك الآن؟
أما خريطة تصنيف المنافي، فهي الأعقد، إذ تُرسم وفق الأهواء والمصالح والضرورات، تُرسم بقلم رصاص مسلّح بممحاة، نمحو ونثبت ما نشاء وفق ما لا نشاء!.